كان لي شغف
الشغف…
كم راودتني هذه الكلمة، وكم أغوتني ببريقها الآسر كنت أراها دائمًا شامخة، سامية، تُحلّق فوق العادي والمألوف.
شغف الحياة، شغف الحب، شغف المعرفة…توليفة ساحرة كانت توقظ شيئًا دافئًا وعميقًا في داخلي كلما سمعتها، كأنها تهمس لي: “عيشي بكل ما فيكِ من نور”.
كنت أنا… تلك الفتاة التي عاشت أحلامها بكل جوارحها.جعلت من الشغف بوصلتي، وسرت خلفه بثقة واندفاع…في دراستي، في الحب، في السفر، في المطالعة، في الموسيقى…كنت أتنفس الحياة بشغف، وأقاوم بها كل ما كان يحاول أن يُطفئني.لم أكن يومًا عابرة في هذا العالم…بل كنت أعيشه بكل ما أملك من نبض وشغف وصدق.
لكن فجأة…
تغير كل شيء.
بغتةً، تلاشى ذلك الإحساس الجميل.
انطفأ النور الذي كان يسكنني.
لم أعد أشعر بشيء. لم أعد أرغب في شيء.
وكأنني لم أعرف الشغف يومًا.
هل كنت أعيش وهماً؟
أم أنني فقط صرت عاجزة؟
هل كبرتُ فجأة أم أن تجارب الحياة سلبتني شيئًا فشيئًا حتى بتّ لا أشبهني؟
أسئلة تؤلمني، ولا أملك لها أجوبة.
كل شيء أصبح باهتًا… بلا طعم، بلا لون، بلا روح.
كل شيء بات لا يُطاق.اشتقت لتلك الأحاسيس المتوهجة التي كانت تملأني بالحياة.اشتقت لوميض كان يميزني عن الآخرين.اشتقت إليّ… كما كنت.
عالمي أصبح كئيبًا، ومواجهة الحياة باتت ثقيلة حد الإنهاك.ضعفت… وانكسر شيء داخلي، لم أعد أقوى على المقاومة.أحتاج إلى شغفي…
هو وحده من كان يحملني حين أسقط،يشدني من متاهات الحياة،يربت على قلبي حين تضيق الدنيا.
هو وحده من كان يسايرني في دوالب الحياة، يحتمل جنوني، ويطيل الصبر على تقلباتي. لا يملّني، لا يحاسبني، فقط يحتويني كما أنا.
أعيدوا لي شغفي…لا أطلب شيئًا سوى أن يعود.
أن يمد لي يده، ويأخذني من هذا الفراغ الثقيل.
عُد يا شغفي…فأنت وحدك القادر على إعادتي للحياة.لا أحد سواك يعرف الطريق إليّ.


النسوية التي أعادت أنوثتي
وُلدتُ وفي داخلي نسوية صامتة، لم أكن أُدرك معناها تمامًا، لكنني شعرت بها تكبر معي، بين صفحات المجلات التي كانت تتصفحها أمي، وبين البرامج التي كنت أتابعها على شاشة التلفاز. في عيني، كانت المرأة الناجحة هي تلك المتعلّمة، المستقلة، التي تكدّ وتجتهد، وتقف جنبًا إلى جنب مع الرجل، لا خلفه. لم أقبل يومًا أن أُعامل ككائن أقل، وكنت أطالب دومًا أن أحظى بما يحظى به أخي… بلا تفضيل ولا تمييز.
رفضت أن يُختزل وجودي في ترتيب البيت أو إعداد الطعام أو رعاية أخي الصغير. كنت أنفر من كل ما سُمّي “واجبًا أنثويًا”، وأميل إلى كل ما صنّفه المجتمع “ذكوريًا” — من السياسة إلى كرة القدم، إلى قضايا الرأي العام. كنت عنيدة، صلبة، لا أُطيع إلا صوتي الداخلي، فقط لأُثبت لنفسي، قبل العالم، أنني لا أنقص عن الرجل شيئًا.
كنت أدفع فاتورتي دائمًا. أرفض الشهامة، وأغضب حين يُسأل أحد عن مهر امرأة. كنت أكره أن أُعامل كـ”أنثى”، وأرفض حتى أن يدافع عني أحد. ومرت 26 سنة على هذا النهج… حتى شعرت أنني خسرت شيئًا ما. شيئًا لم أكن أراه، لكنه كان ينسحب مني ببطء… أنوثتي.
سنوات مرّت بلا وردة، بلا هدية، بلا يد تمتد لتعينني. كنت أُعامل كرجل، لأني أنا من نسجت هذا الانطباع. أدركت، متأخرة، أنني أضعت شيئًا غاليًا، دون أن أُدرك قيمته. أضعت أجمل ما كنت أملكه… تلك الأنوثة التي كانت تتسرّب من صوتي، من عيوني، من خصري، من شعري. ثم فوجئت بأن الصفات “الرجولية” التي تبنيتها، لم تعد مجرّد مواقف، بل أصبحت هوية في نظر الآخرين.
صار من الطبيعي أن يُلقى على كاهلي كل شيء، لأنني “قوية”. صار يُنتظر مني أن أُقرر، أن أُعطي، أن أتحمّل. وكلما زادت توقعاتهم، زاد نفوري… وكرهت نفسي. كرهت ما أصبحت عليه. صار من المستحيل أن أتقبل هذا الثقل، أو أغفر لنفسي أنني سرت في طريق ظننته تحررًا، بينما كان في الحقيقة استنزافًا بطيئًا.
لكنني اليوم أفهم. لم أكن المخطئة… بل الخطأ كان في مجتمع يُجبرنا على التطرف لنحصل على القليل من العدالة. لم أطلب يومًا أن أُعامل كرجل… طلبت فقط أن أُعامل كإنسانة، بكامل حقي وكرامتي. فالنسوية ليست رجولة، وليست صراعًا ضد الرجل، بل نضال من أجل الإنصاف.
القوة لا تعني أن أرفض اللطف. ولا أن أتحمّل كل شيء وحدي لأُثبت شيئًا لأحد. صرت أرى النسوية في اختياري، في حقي بأن أقول “نعم” حين أريد، و”لا” حين أحتاج. أن أكون صلبة حين يلزم، وهشة حين تتعبني الحياة، دون خجل.
تعلّمت أن المساواة لا تعني التشابه، بل الاحترام. وأن الكرامة لا تُقاس بعدد الفواتير التي دفعتها، بل بالمسافة التي قطعتها لأصير “أنا”… كما أريد، لا كما يُفترض بي أن أكون.
لا أتبرأ من ماضٍ كنت أؤمن به، بل أتصالح مع نفسي. اليوم و بعد أربع سنوات أصبح بإمكاني القول إن التوازن ممكن، وإن النسوية ليست قيدًا جديدًا، بل باب نحو أن أكون امرأة كاملة… بقلبي، بعقلي، بضعفي وقوتي. هذه حكايتي، وقد تكون حكاية كثيرات، لم يُتح لهن الوقت ليراجعن الطريق.
حين يصبح الاستقرار حلما
لم أعرف يومًا طعم الاستقرار… لم يطرق بابي يومًا، ولم يحتضنني كما يفعل مع الآخرين.لا دفء أسرة يحتوي قلبي، ولا استقرار وجداني يطمئن روحي، ولا حتى سكينة داخلية تمنح عقلي هدنة من تيهه.
منذ أن فتحت عيني على هذا العالم، وأنا أتنقل كغيمة لا تعرف موطنًا.من يدٍ إلى أخرى، من جدارٍ إلى جدار، من حيٍّ إلى حيّ، ومن مدينة إلى أخرى، حتى صرت أبدّل أوطاني كما يبدّل الناس ثيابهم.وكلما ظننت أنني وصلت، وجدت نفسي أرحل من جديد… حتى صار الاستقرار في نظري مجرد وهم جميل، لا أكثر.
صرت أحنّ إلى وطني حدّ الألم، وأشتاق إلى طفولتي رغم أنها لم تكن سعيدة.أفكّر في أشخاص من ماضٍ بعيد، فقط لأنهم اقترنت بهم لحظات من شبه استقرار، أو وهم استقرار.
أصبحت أشتاق إلى هذه الكلمة حدّ الجنون.صار الاستقرار حلمي الوحيد، وهاجسي الأبدي.أن يكون لي مكان أنتمي إليه، أعيش فيه، أتنفسه، وأحبه.أن يكون لي بيت يظل كما هو، لا يحملني معه إلى المجهول كل يوم.أن أمتلك عملًا لا يتبدّل مع الفصول، وعائلة لا تذوب مع الوقت.
يا لها من أحلام بسيطة… ويا لها من حياة هادئة أشتاق إليها بكل ما تبقّى فيّ.بسيطة في أعينكم، لكنها في عينيّ أعقد من المعجزات.كأن الاستقرار لا يراني، لا يحبني، ولا يفتح لي أبوابه.كأنني خُلقت لأبقى عابرة… في كل شيء.
وهن جسدي، وخارت قواي، ولم يعد فيّ طاقة أقاوم بها هذا الحنين العنيف للاستقرار.صرت أكره رؤية المستقرّين، أتحاشى الحديث معهم، حتى لا تفضحني عيناي المغرورقتان بالدموع، وحتى لا تنطق نظراتي بما لا أجرؤ على قوله:حسدٌ مؤلم لمن أنعم الله عليهم بنعمة الاستقرار.
بتّ أتمنى فقط أن يتوقف الزمن بي في ركن صغير أستطيع أن أسميه “لي”، في لحظة لا أخشى أن تنتهي. لست أطلب الكثير… فقط أن أشعر بالأمان، أن أستيقظ صباحًا ولا ينتظرني رحيل جديد،أن أزرع جذوري في تربة لا ترفضني، أن يربّت القدر على كتفي يومًا ويقول: “هنا، يمكنك أن تبقي.”
وحين يحدث ذلك، إن حدث، سأعرف أنني حيةٌ أرزق…
فما أروع هذه النعمة، وطوبى للمستقرين.

Créez votre propre site internet avec Webador